حـب النبي محمد صلى الله عليه وسلم
قلم/ أحمد عبد الجواد درويش – مدرس مساعد بقسم التاريخ والحضارة بجامعة الأزهر
إنَّ الاحتفال بمولد النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، يكون بحث النفس، ودعوتها إلى السير على طريق الله المستقيم، { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(سورة الأنعام: الآية رقم 153). ولقد تركنا النبي محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- على المحجة البيضاء، ففي الحديث الصحيح، المروي عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عمرو السُّلمِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ الْعِرْبَاضَ بنَ سَارِيَةَ، يَقُولُ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ، حَيْثُمَا قِيدَ انْقَادَ». (أخرجه الإمام ابن ماجة في سننه، باب سنة اتباع الخلفاء الراشدين، حديث رقم(43)، جـــــــــــ1ص16)، (وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، حديث رقم(17142)، جـــــــــــ28ص367). والبيضاء: هي الملة والحُجَّة الواضحة، التي لا تقبل الشبه أصلا، فإنَّما شأن المؤمن ترك التكبر والتزام التواضع، و(الأنِف) أي: الذي جعل الزمام من أنفه، فَيجُرُّه من يشاء من صغير وكبير إلى حيث يشاء، حيثما قيد، أي سيق.
والاحتفاء بمولد النَّبي محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم- إنَّما يكون بالإيمان الحقيقي من قبل العبد بالله تعالى، ولكنَّ هذا الإيمان لا يصح إلا بمحبة النبي صلَّى الله عليه وسلم في قلبه، ففي الحديث الذي رُوي عن أنسٍ، قال: قال النبيُّ – صلى الله عليه وسلم -: «لا يؤمنُ أحدُكُم حتَّى أَكونَ أَحبَّ إليه من والدِه، وولدِه، والناسِ أجمعينَ». (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، باب حب الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، جــــــــــ1ص12).
ولن تتأتى هذه المحبة أيضًا من الإنسان المسلم إلا باتباع سنة النبي محمد -صلَّى الله عليه وسلَّم-، {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم}(سورة آل عمران: الآية رقم 31).
بأبي وأمي أنتَ يا خير الورى *** وصــــلاةُ ربِّــــي والســـلام معطَّــــــرا
يا خاتم الرُّسل الكرام محمد *** بالوحي والقــرآن كنت مطهَّـــــرا
لك يا رسول الله صدق محبة *** وبفيضهــا شهــد اللسان وعبَّـــــرا
لك يا رسول الله صدق محبة *** فاقت محبة من على وجه الثَّرى
لك يا رسول الله صدق محبة *** لا تنتــهـــــي أبــدا ولـــن تتغيـــــــرا
ولذا لا يليق بالمسلم أن يعرف من هذا الدين مناسباته، وأن لا يتذكر إسلامه إلا في هذه المناسبات فقط، ومن هم على ذلك ليسوا أهلًا لنصرته ودعوته، ولكن المرجو منهم أن تكون هذه المناسبات وقفة لإعمال الفكر، وإعادة النظر، وأن تكون نفحة تغسل الآثام، وتحرك النفوس إلى الإقبال على دين الله عز وجل، والعمل بكتابه، والاقتداء بهدي النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، فمنهج الله هو عُدّة الإنسانية في كل العصور، وهو المنهج الوحيد الذي يجلب في الدُّنيا السيادة وفي الآخرة السعادة.
وحبُّ رسولنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وطاعته، إنَّما هو عقيدةٌ وعبادة، وهذا الحب ينبع من حب الله، وحبُّ دينه وطاعته وشريعته السمحاء.
وأروع ما روي في حب النبي صلَّى الله عليه وسلم، ما روي عن أبي عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ جَدَّهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ» فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ، وَاللَّهِ، لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الآنَ يَا عُمَرُ». (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، حديث رقم(6632)، جــــــــــ8ص129).
ومن المعلوم أنَّ محبة النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- هي الطريق الذي يؤدي إلى الجنة، وبوابة حب الله عز وجل، وعبور إلى منازل الجنان، ودليل كبير على إيمان المرء وإخلاصه لله، وذلك بتطبيق محبة الرسول- َّ الله عليه وسلم- في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، فاتباع سنته صلَّى الله عليه وسلم هي أكبر دليل، وأعظم برهان على صدق محبته والإخلاص في حبه، وأجمل ما روي في ذلك، ما جاء عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ السَّاعَةِ، فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: «وَمَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»، قَالَ: لاَ شَيْءَ، إِلَّا أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: فَمَا فَرِحْنَا بِشَيْءٍ، فَرَحَنَا بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ»، قَالَ أَنَسٌ: «فَأَنَا أُحِبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ بِحُبِّي إِيَّاهُمْ، وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ». (أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، حديث رقم(3688)، جــــــــــ5ص12).
إذا نحن أولجنا وأنت أمامنا *** كفى بالمطايا طيبُ ذكركَ حاديا
وبناءً على ذلك فجزاءُ محبة النبي -صلَّى الله عليه وسلم- هي الفوز بالجنة، والقرب منه صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقد رُوي عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي وَوَلَدِي وَأَهْلِي وَمَالِي، وَلَوْلَا أَنِّي آتِيَكَ فَأَرَاكَ لظننت أَنِّي سَأَمُوتُ، وَبَكَى الْأَنْصَارِيُّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أَبْكَاكَ؟ ” قَالَ: ذَكَرْتُ أَنَّكَ سَتَمُوتُ وَنَمُوتُ فَتُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَنَحْنُ إِنْ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ كُنَّا دُونَكَ، فَلَمْ يُخْبِرْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا* ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}(سورة النساء: 69-70)، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَبْشِرْ ». (البيهقي: شعب الإيمان، جـــــــــ2ص504).
ويقول القاضي عياض اليحصبي في كتابه الشفا(جـــــ2ص56-57): «اعلم أنَّ من أحبَّ شيئًا آثرهُ، وآثرَ موافقتهَ، وإلا لم يكن صادقًا في حبه، وكان مدعيًا، فالصادق في حب النبي صلى الله عليه وسلم، من تظهر علامة ذلك عليه، وأولها الاقتداء به واستعمال سنته، واتباع أقواله وأفعاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والتأدب بآدابه في عسره ويسره ومنشطه ومكرهه، وإيثار ما شرعه وحضَّ عليه على هوى نفسه وموافقة شهوته، وشاهد هذا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ}(سورة الحشر: الآية رقم 9).
وأقول:
فخرُ المشارقِ والمغاربِ أحمدُ****هوَ قدوتي ولهُ المناقـــــبُ تشهــــدُ
هوَ خاتمُ للأنبياءِ تعطَّرِت****في ذكرِهِ الأنفـــاسُ ذاكَ مُحمَّـــــدُ
مَنْ ذَا سَأقصِدُ غَيرَهُ كوَسيلَةٍ****أو أسوَةٍ بينَ الخَلائَقِ تُقْصَــــدُ
أو أبتَغي مَثَلا سواهُ وَ أقتَدي****وَ بِهِ الفَضائلُ كُلها تَتَجَسّــــــدُ
هوَ أوَّلٌ قبلَ المَلائِكِ وَالثَرَى****هوَ كوكبٌ، هوَ آيَةٌ، هوَ فَرْقَدُ
ذاكَ الشَفيعُ إذَا الجَحيمُ تَأجَّجَتْ **إذ لا مَنــــاصَ وَ نارُها تَتَوقّـــــــدُ
يومَ المَعادِ إذا سُئِلتُ فَمَنَ تُرى ***فوقَ اللِسانِ سوى الحبيبِ يُــرَدّدُ
كلّ الشَوَاهِدِ لَو ذَكرتُ سَتَختَفي*وَمُحَمّـــدٌ دونَ الشهـــودِ مُخَلَّـــــدُ
مَنْ ذَا على خُلُقٍ كريمٍ غَيرهُ؟***فَالكُلّ مَشبوهونَ وَ هوَ مُؤكّــدُ
وأختم بدليل هو من خير الادلة على حب النبي محمد صلَّى الله عليه وسلَّم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا، نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي، يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ».(أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، باب فيمن يود رؤية النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، حديث رقم(2832)، جـــــــــ4ص2178.
فكلنا محبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم محبة وجوبٍ، ومحبة اختيارٍ وتعظيمٍ له عليه الصلاة والسلام، وأمر هذا الوجوب لا يحتاج لأدلة، فلعلَّنا ندرك عظمة هذا الوجوب عندما ندرك هذه النصوص الواضحة في أنَّ محبته ينبغي أن تكون أعظم من محبة النفس التي بين جنبيك، وأنفاسك التي تتردد، وقلبك الذي يخفق، فضلا عن محبة الزوج والأبناء، أو الأمهات والآباء، فما أعظم هذه المحبة التي هي أعظم محبة لمخلوقٍ من بني آدم في الدنيا، وفي الخليقة كلها، وهي التي استحقها سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، ووجبت على كل مؤمن بالله سبحانه.
_____________________________________
للإطلاع علي قسم خطبة الجمعة باللغات
للإطلاع ومتابعة قسم خطبة الأسبوع
للمزيد عن أسئلة امتحانات وزارة الأوقاف